[ تابع مصر في عصور الإحتلال ]
الإحتلال الثالث : الإحتلال العربي الإٍسلامي لمصر
[ عصر الدولة الإخشيدية ]
مقدمة
ينتسب الإخشيديُّون – من حيث الأصول – إلى «الإخشيد» ، وهو لقبٌ فارسيّ قديم ، كان قد منحهُ الخليفة العبَّاسي أبو العبَّاس مُحمَّد الراضــي بِالله لِأبي بكر مُحمَّـــد بن بن طغجبن جُف ، في شهر رمضان من سنة 327 للهجرة – والمُوافق شهر تمُّوز (يوليو) من سنة 939 م ، بناءًا على طلبه ، وإنَّما لقَّبهُ بِذلك لِأنَّهُ لقب مُلُوك فـــرغانة ، وهو من نسلهم ، والمعروف أنَّهُ كان يُسيطر على هذا الإقليم ، كبار المُلَّاك الإقطاعيين والفُرسان ، وأميرُهم هو أكبرهم ، من حيثُ السعة الإقطاعيَّة ، ويُسمَّى «دهقان» ، ولقبه ” إخشيد ” – ويعني «الذكي» ، أو «النبيه» .
ينتسب الإخشيديُّون – من حيث الأصول – إلى «الإخشيد» ، وهو لقبٌ فارسيّ قديم ، كان قد منحهُ الخليفة العبَّاسي أبو العبَّاس مُحمَّد الراضــي بِالله لِأبي بكر مُحمَّـــد بن بن طغجبن جُف ، في شهر رمضان من سنة 327 للهجرة – والمُوافق شهر تمُّوز (يوليو) من سنة 939 م ، بناءًا على طلبه ، وإنَّما لقَّبهُ بِذلك لِأنَّهُ لقب مُلُوك فـــرغانة ، وهو من نسلهم ، والمعروف أنَّهُ كان يُسيطر على هذا الإقليم ، كبار المُلَّاك الإقطاعيين والفُرسان ، وأميرُهم هو أكبرهم ، من حيثُ السعة الإقطاعيَّة ، ويُسمَّى «دهقان» ، ولقبه ” إخشيد ” – ويعني «الذكي» ، أو «النبيه» .
ومُحمَّد بن طُغج هذا هو مُؤسس الدولة الإخشيديَّة ، والرَّاجح أنَّهُ عندما ترقَّى في المناصب القياديَّة ، ووصل إلى منصب الولاية أراد أن يصل نسبه بِمُلوك فرغانة إعلاءً لِشأن أُسرته ، ولِذلك لقَّبهُ الخليفة الرَّاضي بِهذا اللقب ، عندما أضحى صاحب الديار المصريَّة والشَّاميَّة لِأنَّهُ كان فرغانيًا ، ومهما يكن من أمر ، فقد قدم جُف بن يلتكين ، جد مُحمَّد، إلى الخليفة العبَّاسي أبو إسحٰق مُحمَّد المُعتصم بالله مع طائفةٍ من الضُبَّاط التُرك، والمعروف أنَّ التدخُّل التُركي في شؤون الخِلافة بدا واضحًا في عهد هذا الخليفة الذي بويع في ظل صراعٍ عنيفٍ بين العرب من ناحية ، وبين الفُرس من ناحيةٍ أُخرى، واختلالٍ في التَّوازُن بين العصبيَّات القوميَّة التي تكوَّنت منها الدولة العبَّاسيَّة ، وقد فقد ثقته بِالعرب والفُرس ما دفعهُ إلى تقريب العُنصر التُركي ، وخصَّ التُرك بِالنُفوذ والسُلطان ، وقلَّدهم قيادة الجُيُوش ، ومكَّن لهم في الأرض ، وأقطعهم قطائع في سامراء ، وظلَّت قطائع جُف تُنسب إليه حتَّى بعد زمن إبن خلِّكان المُتوفَّى سنة 681 هـ – المُوافق سنة 1282 م .
بداية صعود الدولة الإخشيدية وظهورها
إنتقل جُف بعد وفاة الخليفة المُعتصم إلى خدمة إبنه الخليفة أبو جعفر هٰرون الواثــق بالله ، وعندما تُوفي هذا في سنة 232 هـ المُوافقة لِسنة 847م ، دخل في خدمة أخيه أبو الفضل جعفر المُتوكِّل على الله، وظلَّ في عداد حاشيته إلى أن تُوفي بِبغداد في الليلة التي قُتل فيها المُتوكِّل ، في عام هـ – والموافق247 لعام 861 م ، وإلتحق ابنُه «طُغج» ، بعد وفاته ، بِخدمة أحمد بن طولون، ويبدو أنَّهُ إنضمَّ بعد ذلك إلى إسحٰق بن كنداج والي الموصل ، وخِصم ابن طولون ، وما جرى بعد ذلك من التفاهم بين خُمارويه بن أحمد بن طولون وبين إسحٰق بن كنداج ، أن عاد طُغج بن جُف إلى العمل تحت إمرة الطولونيين ، فعيَّنهُ خُمارويه واليًا على دمشق ، وطبريَّا ،وأرسلهُ في سنة 281هـ المُوافقة لِسنة 894م لِغزو البيزنطيين ، فخرج من طرسوس على رأس الجيش ، وتوغَّل في آسيا الصُغرى، وهزم البيزنطيين في مواقع عدَّة عند أبواب قيليقية ، وفي غربها ، وقد أدَّى إنتصاره هذا إلى أن يزحف إلى عُمق الأراضي البيزنطيَّة على إمتداد الساحل ، وأن يتوغَّل في جوف الأناضول حتي طرابزون على البحر الأسود.
ثُمَّ عاد إلى دمشق مُحمَّلًا بِالغنائم ، ويبدو أنَّ خُمارويه غضب على طُغج بن جُف بعد هذه الحملة لِأنَّهُ كان قد طلب منهُ القبض على راغب مولى المُوفَّق بالله أبو أحمد طلحة
وليَّ العهد العبَّاسي ، والمعروف أنَّ راغب هذا كان قد نزل بِطرسوس لِلجهاد ضدَّ الروم، ثُمَّ غلب على هذا الثغر بعد أحمد بن طغَّان العُجيفي ، لكنَّ الاستقبال الودي الذي لقيه طُغج منه جعلهُ يأنس إليه ويُبقي على حياته – وبِخاصَّةً – بعد تدخُّل أهل طرسوس الذين إرتاحوا في ظل حُكمه ، وإشترك الرجلان في غزو البيزنطيين . وعندما عاد طُغج بن جُف إلى خُمارويه ، راح يتلمَّس الأعذار لِتصرُّفه وإمتناعه عن التخلُّص من راغب، ويبدو أنَّ خُمارويه لم يقتنع بِتبريراته ، وقرَّر التخلُّص منه ، غير أنَّهُ قُتل قبل أن يُحقق ذلك.
وليَّ العهد العبَّاسي ، والمعروف أنَّ راغب هذا كان قد نزل بِطرسوس لِلجهاد ضدَّ الروم، ثُمَّ غلب على هذا الثغر بعد أحمد بن طغَّان العُجيفي ، لكنَّ الاستقبال الودي الذي لقيه طُغج منه جعلهُ يأنس إليه ويُبقي على حياته – وبِخاصَّةً – بعد تدخُّل أهل طرسوس الذين إرتاحوا في ظل حُكمه ، وإشترك الرجلان في غزو البيزنطيين . وعندما عاد طُغج بن جُف إلى خُمارويه ، راح يتلمَّس الأعذار لِتصرُّفه وإمتناعه عن التخلُّص من راغب، ويبدو أنَّ خُمارويه لم يقتنع بِتبريراته ، وقرَّر التخلُّص منه ، غير أنَّهُ قُتل قبل أن يُحقق ذلك.
وعندما تولَّى هٰرون بن خُمارويه حُكم مصر ، كان طُغج بن جُف يحكم الشَّام مُستقلًا عن مصر إلى حدٍ ما ، فكتب إليه القائدان الطولونيَّان بدر الحمامي والحُسين بن أحمد الماذارئي لاستقطابه ، لا سيَّما وأنَّ هٰرون بن خُمارويه كان صغيرًا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عُمره وكان قادة الجُند يُسيرون شؤون الدولة ، وفق أهوائهم ومصالحهم الخاصَّة، وبعد مُفاوضاتٍ جرت بين الطرفين نجح القائدان الطولونيَّان في الوُصول إلى تفاهُمٍ معه يقضي بِعودة الشَّام إلى حظيرة الدولة الطولونيَّة ، وإقرار طُغج بن جُف على حُكمها.
وتصدَّى طُغج بن جُف في سنة 289هـ المُوافقة لِسنة 902م لِجُمُوع القرامطة الذين تقدموا باتجاه الشَّام هربًا من مُطاردة الجُيُوش العبَّاسيَّة ، فعاثوا فيها فسادً ا، لكنَّهُ هُزم أمامهم وعاد إلى دمشق، وجدَّد قتاله لهم في العام التالي، إلَّا أنَّهُ هُزم أيضًا.
وكان طُغج بن جُف من بين القادة الذين لم يرضوا عن قتل هٰرون بن خُمارويه، ولم يعترفوا بِخلفه شيبان بن أحمد بن طولون، وانضمُّوا إلى الجيش العبَّاسي الزاحف إلى مصر بِقيادة مُحمَّد بن سُليمان الكاتب لِلقضاء على حُكم الطولونيين. وكافأه الوالي العبَّاسي بِأن عيَّنهُ واليًا على قنسرين، لكنَّهُ لم يستمر طويلًا في منصبه، فقد اصطحبه مُحمَّد بن سُليمان الكاتب معهُ إلى بغداد هو وابنه وأخاه ، وهُناك دبَّ الخلاف بينهُ وبين العبَّاس بن الحسن وزير الخليفة أبو مُحمَّد علي المُكتفي بِالله، فدسَّ لهُ عند الخليفة الذي زجَّه في السجن مع إبنه مُحمَّد ، وتُوفي في سجنه في سنة 294هـ المُوافقة لِسنة 907م ، وأطلق الخليفة مُحمَّد بن طُغج من السجن، فلازم الوزير العبَّاسي إلى أن قضى عليه الحُسين بن حمدان التغلبي – أوَّل أمُراء الحمدانيين – واشترك مُحمَّد بن طُغج وأخوه عُبيد الله معهُ في التخلُّص منه أخذًا بِثأر والدهُما ، وهرب مُحمَّد إلى بلاد الشَّام ، وفرَّ أخوه عُبيد الله إلى شيراز .
إنهيار الدولة العباسية
كانت الدولة العبَّاسيَّة قد ضعُفت وقلَّت هيبة الخِلافة في نُفوس وُلاة الأقاليم البعيدة وأهلها لِأسبابٍ مُختلفة ، من أبرزها بُروز «الشُّعوبيَّة»، وهي نزعةٌ ترمي إلى تفضيل «الشُعوب» الأعجميَّة على «القبائل» العربيَّة. وقد ظهرت هذه النزعة في الدولة العبَّاسيَّة لِأسبابٍ كثيرة أبرزها التنوع العرقي في الدولة العبَّاسيَّة مُتناثرة الأطراف، واستخدام الخُلفاء العبَّاسيين للعجم في قُصورهم وفي أجهزة الدولة ، فقد اعتمد العبَّاسيُّون في تأسيس دولتهم علىالفُرس النَّاقمين على الأُمويين، بعد أن كان الأُمويّون يعتمدون على العُنصر العربي في إدارة دولتهم وقيادة جُيوشهم.
وبعد فترةٍ اعتمدوا على التُرك بعد أن ضعُفت ثقتهم بِالعرب والفُرس كما أُسلف.
وقد ازداد نُفوذ التُرك في الدولة العبَّاسيَّة حتَّى سيطروا على مُقدرات الدولة ، وهيمنوا على الخِلافة بعد إنقضاء عهد الخليفة أبو جعفر هٰرون الواثق بالله، فسيطروا على كافَّة الأقاليم وأنابوا فيها عُمَّالًا عنهم ، وقد شكَّل هذا التدبير خُطوةً سياسيَّةً على طريق انفصال الولايات عن الإدارة المركزيَّة، إذ طمع الوكلاء بِولاياتهم، واستقلَّوا بها مُنتهزين فُرصة ضعف السُلطة المركزيَّة، وعدم معرفة الخليفة بما يجري في الولايات لاطمئنانه إلى من ولَّاهم من التُرك.
وبعد فترةٍ اعتمدوا على التُرك بعد أن ضعُفت ثقتهم بِالعرب والفُرس كما أُسلف.
وقد ازداد نُفوذ التُرك في الدولة العبَّاسيَّة حتَّى سيطروا على مُقدرات الدولة ، وهيمنوا على الخِلافة بعد إنقضاء عهد الخليفة أبو جعفر هٰرون الواثق بالله، فسيطروا على كافَّة الأقاليم وأنابوا فيها عُمَّالًا عنهم ، وقد شكَّل هذا التدبير خُطوةً سياسيَّةً على طريق انفصال الولايات عن الإدارة المركزيَّة، إذ طمع الوكلاء بِولاياتهم، واستقلَّوا بها مُنتهزين فُرصة ضعف السُلطة المركزيَّة، وعدم معرفة الخليفة بما يجري في الولايات لاطمئنانه إلى من ولَّاهم من التُرك.
ولعل من العوامل الدَّاخليَّة التي شجَّعت على انتشار الحركات الإنفصاليَّة ، إتساع رقعة الدولة العبَّاسيَّة ، حتَّى غدت إمبراطوريَّة تبسطُ جناحيها على كافَّة أنحاء المنطقة المُمتدَّة من حُدود الصين وُصولًا إلى المغرب الأوسط في شمال إفريقيا ، ولكن هذا الاتساع في المساحة ، بدلاً من أن يكون عامل قُوَّةٍ في كيان الدولة ، إنقلب إلى عامل ضعفٍ فساعد على تفسُّخها وتفكُّكها ، ذلك أنَّ بُعد المسافة بين أجزاء الدولة وبين عاصمتها، وصُعوبة المُواصلات في ذلك الزمن ، جعلا الوالي في البلاد النائية يتجاوزون سُلطاتهم ويستقلُّون بِشُؤون ولاياتهم دون أن يخشوا الجُيوش القادمة من عاصمة الخِلافة لِإخماد حركاتهم الإنفصاليَّة ، والتي لم تكن تصل إلَّا بعد فوات الأوان.
وحدث في غُضون ذلك أن ظهر أمر عُبيد الله المهدي، مُؤسس الدولة الفاطميَة في المغرب ، وقد صادفت دعوته نجاحًا كبيرًا في تلك البلاد على يد الدُعاة الذين أرسلهم إليها ، وذلك نتيجةً لِلظُروف السياسيَّة والاجتماعيَّة التي كانت تعيش في ظلِّها.
وقد غدا الشيعة الإسماعيليَّة بين سنتيّ 288 و296هـ المُوافقة لِما بين سنتيّ 901 و908م – أصحاب السُلطان المُطلق في جميع الجهات إلى الغرب من مدينة القيروان. وبعد نجاح الداعية أبي عبد الله الشيعي في مُهمته الدعويَّة، أرسل الرُسل إلى بلدة سلميَّة في الشَّام مقر الإسماعيليين ، وكان عُبيد الله المهدي ما يزال فيها، يدعوه لِلمجيء إلى إفريقية.
ولمَّا كان العبَّاسيين يُلاحقون العلويين بِلا هُوادة، خرج عُبيد الله المهدي من سلمية إلى الرملة في شهر رجب سنة 289هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) سنة 902م، مُتخفيًا بِزي التُجَّار، واصطحب معه ولده مُحمَّد، وبعد مضيّ سنتين يمَّم وجهه صوب مصر وأقام في الفسطاط بعيدًا عن الأنظار لِيتجنَّب رقابة السُلطة ومُلاحقتها، لكن سُرعان ما انكشف أمره وترصَّده الوالي عيسى النوشري حتَّى قبض عليه، ولكنَّهُ سُرعان ما أطلق سراحه مُخالفًا بِذلك أمر الخليفة ، ولعلَّهُ تأثَّر بِبعض خاصَّته من الشيعة الإسماعيليين أو أنَّهُ تلقَّى رشوةً منه ، وحدث في عهد عيسى النوشري أيضًا أن لجأ أبو مضر زيادة الله الأغلبي، آخر الحُكَّام الأغالبة، إلى مصر هربًا من الفاطميين بعد أن فشل في وقف التمدُّد الشيعي باتجاه بلاده، فنزل أولًا بِالجيزة، ولمَّا أراد الدُخُول إلى الفسطاط منعهُ عيسى النوشري، ثُمَّ سمح لهُ شرط أن يدخُلها وحده من غير جُند. عادت مصر والشَّام إلى أحضان الخِلافة العبَّاسيَّة على أثر سُقُوط الإمارة الطولونيَّة، تحكُمها مُباشرةً بِواسطة وُلاةٍ تُعيِّنُهم من قِبلها. وعندما دخل مُحمَّد بن سُليمان الكاتب مدينة الفسطاط دعا لِلخليفة أبو أحمد علي المُكتفي بِالله على المنابر، وكتب إليه يُبشِّره بِالفتح، ثُمَّ ورد كتاب الخليفة بِولاية أبي موسى عيسى بن مُحمَّد النوشري على مصر، وكان هذا من بين القادة الذين قدموا مع مُحمَّد بن سُليمان الكاتب وشاركوا في القضاء على الإمارة الطولونيَّة ، ثُمَّ عاد إلى العراق، ولكنَّهُ لم يكد يصل إلى دمشق حتَّى وافاه كتاب الخليفة بِولايته على مصر، فعاد أدراجه، وكان مُحمَّد بن سُليمان لا يزال فيها ، فوصل إليها في 7 جُمادى الآخرة 292هـ المُوافق فيه عام 905م ، فخلع عليه وطاف به في الفسطاط وعليه الخُلعة، ثُمَّ خرج مع جُنده إلى الشَّام تاركًا مصر تحت حُكم عيسى النوشري ، وأجرى الخليفة تعييناتٍ إداريَّةٍ مُساعدةٍ لِعيسى النوشري. فقد عيَّن علي بن حسَّان أعمال الإسكندريَّة، ومُهاجر بن طليق ثغر تنيس ودُمياط، ورجُلًا يُعرف بِالكِندي الأحواف، ومُوسى بن أحمد برقة وما والاها، ومُحمَّد بن ربيعة الصعيد وأسوان، وأبا زنبور الحُسين بن أحمد الماذرائي أعمال الخِراج بِمصر ، وكانت فاتحة أعماله هدم ميدان أحمد بن طولون ، وقد بيعت أنقاضه بِأبخس الأثمان ، ثُمَّ قضى على من تبقَّى من أتباع الطولونيين وشرَّد فئة أُخرى منهم ولاحق الجُند الذين شغبوا عليه ، فقبض على جماعةٍ منهم وقتلهم ما أحدث إضطراباتٍ داخليَّةٍ عنيفة.
وقد غدا الشيعة الإسماعيليَّة بين سنتيّ 288 و296هـ المُوافقة لِما بين سنتيّ 901 و908م – أصحاب السُلطان المُطلق في جميع الجهات إلى الغرب من مدينة القيروان. وبعد نجاح الداعية أبي عبد الله الشيعي في مُهمته الدعويَّة، أرسل الرُسل إلى بلدة سلميَّة في الشَّام مقر الإسماعيليين ، وكان عُبيد الله المهدي ما يزال فيها، يدعوه لِلمجيء إلى إفريقية.
ولمَّا كان العبَّاسيين يُلاحقون العلويين بِلا هُوادة، خرج عُبيد الله المهدي من سلمية إلى الرملة في شهر رجب سنة 289هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) سنة 902م، مُتخفيًا بِزي التُجَّار، واصطحب معه ولده مُحمَّد، وبعد مضيّ سنتين يمَّم وجهه صوب مصر وأقام في الفسطاط بعيدًا عن الأنظار لِيتجنَّب رقابة السُلطة ومُلاحقتها، لكن سُرعان ما انكشف أمره وترصَّده الوالي عيسى النوشري حتَّى قبض عليه، ولكنَّهُ سُرعان ما أطلق سراحه مُخالفًا بِذلك أمر الخليفة ، ولعلَّهُ تأثَّر بِبعض خاصَّته من الشيعة الإسماعيليين أو أنَّهُ تلقَّى رشوةً منه ، وحدث في عهد عيسى النوشري أيضًا أن لجأ أبو مضر زيادة الله الأغلبي، آخر الحُكَّام الأغالبة، إلى مصر هربًا من الفاطميين بعد أن فشل في وقف التمدُّد الشيعي باتجاه بلاده، فنزل أولًا بِالجيزة، ولمَّا أراد الدُخُول إلى الفسطاط منعهُ عيسى النوشري، ثُمَّ سمح لهُ شرط أن يدخُلها وحده من غير جُند. عادت مصر والشَّام إلى أحضان الخِلافة العبَّاسيَّة على أثر سُقُوط الإمارة الطولونيَّة، تحكُمها مُباشرةً بِواسطة وُلاةٍ تُعيِّنُهم من قِبلها. وعندما دخل مُحمَّد بن سُليمان الكاتب مدينة الفسطاط دعا لِلخليفة أبو أحمد علي المُكتفي بِالله على المنابر، وكتب إليه يُبشِّره بِالفتح، ثُمَّ ورد كتاب الخليفة بِولاية أبي موسى عيسى بن مُحمَّد النوشري على مصر، وكان هذا من بين القادة الذين قدموا مع مُحمَّد بن سُليمان الكاتب وشاركوا في القضاء على الإمارة الطولونيَّة ، ثُمَّ عاد إلى العراق، ولكنَّهُ لم يكد يصل إلى دمشق حتَّى وافاه كتاب الخليفة بِولايته على مصر، فعاد أدراجه، وكان مُحمَّد بن سُليمان لا يزال فيها ، فوصل إليها في 7 جُمادى الآخرة 292هـ المُوافق فيه عام 905م ، فخلع عليه وطاف به في الفسطاط وعليه الخُلعة، ثُمَّ خرج مع جُنده إلى الشَّام تاركًا مصر تحت حُكم عيسى النوشري ، وأجرى الخليفة تعييناتٍ إداريَّةٍ مُساعدةٍ لِعيسى النوشري. فقد عيَّن علي بن حسَّان أعمال الإسكندريَّة، ومُهاجر بن طليق ثغر تنيس ودُمياط، ورجُلًا يُعرف بِالكِندي الأحواف، ومُوسى بن أحمد برقة وما والاها، ومُحمَّد بن ربيعة الصعيد وأسوان، وأبا زنبور الحُسين بن أحمد الماذرائي أعمال الخِراج بِمصر ، وكانت فاتحة أعماله هدم ميدان أحمد بن طولون ، وقد بيعت أنقاضه بِأبخس الأثمان ، ثُمَّ قضى على من تبقَّى من أتباع الطولونيين وشرَّد فئة أُخرى منهم ولاحق الجُند الذين شغبوا عليه ، فقبض على جماعةٍ منهم وقتلهم ما أحدث إضطراباتٍ داخليَّةٍ عنيفة.
خريطة توضح تفكك الدولة العباسية إلى عدد من
الدول المستقلة
الدول المستقلة
تُوفي عيسى النوشري في عام 297 للهجرة – و المُوافق لسنة 910 م ، وعُيِّن بعده أبو منصور تكين في – هـ ذي الحجَّة 297 والمُوافق لسنة 910 م ، وفي تلك الفترة كانت شوكة الفاطميين بِالمغرب تقوى شيءًا فشيئاً ، وأبدى عُبيد الله المهدي عزم الفاطميين ورغبتهم الأكيدة في سحق العبَّاسيين ، وتزعُّم العالم الإسلامي روحيًا وسياسيًا، ولمَّا كان الوُصول إلى المشرق وعاصمة الخِلافة بغداد يمُر بِمصر الواقعة تحت السيطرة العبَّاسيَّة، قرَّر عُبيد الله المهدي ضرب الدولة العبَّاسيَّة في هذه الولاية والاستيلاء عليها كخُطوةٍ أولى. وفي سنة 301هـ المُوافقة لِسنة 914 م ، جهَّز عُبيد الله المهدي جيشًا جرَّارًا عهد بِقيادته إلى وليّ عهده أبي القاسم مُحمَّد القائم بِأمر الله ودفعهُ بإتجاه مصر ، لِلسيطرة عليه ،سار القائم إلى إلى مصر عام 914م ، وأسرع قائد مُقدمة الجيش حباسة بن يُوسُف بِمُغادرة برقة ونجح في دُخول الإسكندريَّة في ذات العام ، وبعد وُصُول القائم إلى الإسكندريَّة ، سار بِجيشه إلى الفسطاط ، حيثُ اصطدم بِقُوَّات الوالي العبَّاسي على مقرُبةٍ من الجيزة ، فإضطرَّ على إثر ضغط القتال ، أن يتراجع إلى الإسكندريَّة مُجددًا.
وفي الوقت الذي كان فيه القائم يستريح من عناء القِتال في الإسكندريَّة ، أرسل الخليفة العبَّاسي أبو الفضل جعفر المُقتدر بِالله قُوَّةً عسكريَّةً إلى مصر بِقيادة مُؤنس الخادم، وهو من كبار القادة العبَّاسيين، وممَّا لا شكَّ فيه بِأنَّ القائم لم يكن قادرًا على مُواجهة الجيش العبَّاسي وجيش ولاية مصر معًا ، وكذلك إنتفاضة الأهالي ضدَّه، فاضطرَّ إلى الانسحاب إلى إفريقية.
تولَّى بعد ذلك حُكم مصر الوالي زكَّا الأعور في عام303 هـ – والمُوافق لعام 915م ، فطارد أنصار الفاطميين الذين كاتبوا عُبيد الله المهدي وحثوه على غزو مصر، فقبض على كثيرٍ منهم، فسجن فئة وأعدم فئة فعظُمت هيبته في عُيُون الناس، وعمل على إقرار الأمن وتحصين الإسكندريَّة تحسُبًا لِأي هُجومٍ فاطميٍّ جديد. لكنَّ العلاقة بين الوالي الجديد والسُكَّان ساءت بِسبب تبنّيه رأي المُعتزلة بِشأن خلق القُرآن، كما انقلب عليه الجُند بِسبب تأخُره في دفع رواتبهم.
وفي تلك الفترة عاود الفاطميين الكرَّة على مصر ، يُرافقهم هذه المرَّة أُسطولٌ بحريّ، فتمكنوا من دُخول الإسكندريَّة مُجددًا ، وأخذ الوالي العبَّاسي يعمل على التصدي لهم، ولكنَّ عصيان الجُنود لِأوامره ورفضهم التعاون معه في الدفاع عن الديار المصريَّة جعلهُ يخرج بِمجموعةٍ صغيرةٍ من الجُنود إلى مُعسكره في الجيزة ولكنَّهُ أُصيب بِوعكةٍ صحيَّةٍ مُفاجئة وتوفى على إثرها. وعُيِّن مرَّةً أُخرى أبو منصور تكين على ولاية مصر لِمُواصلة الدفاع عنها ضد هجمات الفاطميين، وحفر خندقًا بِمعُسكر الجيزة بِخلاف الخندق الذي حفره الوالي السَّابق، وجاءت قُوَّات إضافيَّة من بغداد لِلدفاع عن السواحل المصريَّة وبِالفعل تمَّت هزيمة الفاطميين والرُجوع عن نوياهم خوفًا من الدُخول في معركةٍ نتائجها ليست في صالح الدولة الفاطميَّة.
وما كاد تكين يرتاح من عناء الضغط الفاطمي حتَّى أقدم مُؤنس الخادم على عزله عن ولاية مصر، ثُمَّ أعاد تعيينه بعد ثلاثة أيَّام بناءً على طلبات المصريين، ثُمَّ أعاد عزله مرَّة أُخرى بعد أربعة أيَّام من إعادته وأبعده عن مصر ، وعيَّن بدلًا منه هلال بن بدر ثُمَّ أحمد بن كيغلغ ، ثُمَّ أُعيد تولية أبو منصور تكين لِلمرَّة الرابعة ، فبقي قائمًا على أُمور مصر إلى أن تُوفي في ربيع الأول من عام هـ 321 المُوافق عام 933م ، شهدت مصر بعد وفاة تكين ، صراعًا حادًا على السُلطة بين الوُلاة والجيش العبَّاسي المُرابط في الولاية والقادة الماذرائيين وأنصارهم الذين كانت لهم سُلطة في البلاد مُنذ العهد الطولوني ، فسادَ الإضطراب الداخلي ، وساءت الإدارة ، ولم ترجع الأُمور لِنصابها إلَّا بِتعيين مُحمَّد بن طُغج الإخشيدي واليًا بعد بضعة شُهُور.
وما كاد تكين يرتاح من عناء الضغط الفاطمي حتَّى أقدم مُؤنس الخادم على عزله عن ولاية مصر، ثُمَّ أعاد تعيينه بعد ثلاثة أيَّام بناءً على طلبات المصريين، ثُمَّ أعاد عزله مرَّة أُخرى بعد أربعة أيَّام من إعادته وأبعده عن مصر ، وعيَّن بدلًا منه هلال بن بدر ثُمَّ أحمد بن كيغلغ ، ثُمَّ أُعيد تولية أبو منصور تكين لِلمرَّة الرابعة ، فبقي قائمًا على أُمور مصر إلى أن تُوفي في ربيع الأول من عام هـ 321 المُوافق عام 933م ، شهدت مصر بعد وفاة تكين ، صراعًا حادًا على السُلطة بين الوُلاة والجيش العبَّاسي المُرابط في الولاية والقادة الماذرائيين وأنصارهم الذين كانت لهم سُلطة في البلاد مُنذ العهد الطولوني ، فسادَ الإضطراب الداخلي ، وساءت الإدارة ، ولم ترجع الأُمور لِنصابها إلَّا بِتعيين مُحمَّد بن طُغج الإخشيدي واليًا بعد بضعة شُهُور.
البداية الأولى لظهور محمد بن طغج
لقد كان مُحمَّد بن طُغج قد اتصل بعد خُروجه من العراق إلى الشَّام بِأبي العبَّاس أحمد بن بسطام عامل الخِراج فيها ، وظلَّ معهُ يخدمهُ في صيده ، ويجمع لهُ الجوارح حتَّى عُرف باسم : « بازيار بن بسطام » – أي – « صاحب الباز بن بسطام » ، وهو الذي يحملُ البيزان والصُقُور المُعدَّة لِلصيد.
وعندما تقلَّد إبن بسطام خراج مصر في عام 296هـ – والمُوافق لعام 909م، صحبهُ مُحمَّد بن طُغج إليها ، وإستمرَّ في خدمته إلى أن تُوفي في السنة التالية ، فإلتحق بِخدمة إبنه أبي القاسم علي بن أحمد بن بسطام الذي خلفهُ على خِراج مصر، وظلَّ في خدمته حتَّى تمَّ عزله سنة (912 – 913)م ، فإتصل بِأبي المنصور تكين والي مصر، واشترك مع القُوَّات العبَّاسيَّة في التصدي لِلغزو الفاطمي على مصر، وبِخاصَّةٍ الحملة التي قادها حباسة سنة 302هـ المُوافقة لِسنة 914م، وأبلى فيها بلاءً حسنًا ما لفت نظر تكين، فقرَّبهُ إليه ووثَّق صلته به حتَّى أضحى منهُ بِمثابة الابن ، وعندما عُزل تكين عن ولاية مصر وأُسندت إليه ولاية دمشق رافقهُ مُحمَّد بن طُغج ، فولَّاهُ تكين عمَّان وجبال الشراة نيابةً عنه، وسنحت لهُ الظُروف أن يُظهر مواهبه العسكريَّة وإخلاصه لِلخلافة عندما أنقذ قافلة حُجَّاج قادمةٍ من العراق والشَّام من غارةٍ نفذها أعرابٌ من لخم وجذام، فشكرهُ الحُجَّاج وأسهبوا في الحديث عن شجاعته في بغداد ما لفت نظر الخليفة، فخلع عليه وزاد في رزقه.
وعندما أُعيد تكين إلى ولاية مصر في سنة 307هـ المُوافقة لِسنة 919م، صحبهُ مُحمَّد بن طُغج، فولَّاهُ على الإسكندريَّة، وظلَّ مُقيمًا فيها إلى أن غزاها الفاطميُّون مرَّة ثانية بِقيادة القائم، فأبدى شجاعةً في القتال وأدَّى دورًا فاعلًا في هزيمتهم وإجبارهم على العودة إلى المغرب ، إستغلَّ مُحمَّد بن طُغج وضعهُ المُتقدِّم فوثَّق علاقته بِكبار رجال الدولة في بغداد ومصر، فأنعم عليه مؤنس الخادم بِأن قلَّدهُ الحوفين الشرقي والغربي بِأمرٍ من الخليفة، كما اتصل بِأفراد الأُسرة الماذرائيَّة في مصر وحصل منهم على معلوماتٍ مُفيدة عن أوضاع مصر الاقتصاديَّة وعن المُمتلكات الماذرائيَّة. وما جرى آنذاك من إقدام مُحمَّد بن طُغج على مُصادرة أموال الناس في مصر واستيلائه على دار القاضي الحُسين بن حرب وعلى تركة أحمد بن صالح حاكم الإسكندريَّة، أن دبَّ الخِلاف بينه وبين تكين الذي أزعجهُ هذا التصرُّف ولم يرضَ عنه.
وعندما أُعيد تكين إلى ولاية مصر في سنة 307هـ المُوافقة لِسنة 919م، صحبهُ مُحمَّد بن طُغج، فولَّاهُ على الإسكندريَّة، وظلَّ مُقيمًا فيها إلى أن غزاها الفاطميُّون مرَّة ثانية بِقيادة القائم، فأبدى شجاعةً في القتال وأدَّى دورًا فاعلًا في هزيمتهم وإجبارهم على العودة إلى المغرب ، إستغلَّ مُحمَّد بن طُغج وضعهُ المُتقدِّم فوثَّق علاقته بِكبار رجال الدولة في بغداد ومصر، فأنعم عليه مؤنس الخادم بِأن قلَّدهُ الحوفين الشرقي والغربي بِأمرٍ من الخليفة، كما اتصل بِأفراد الأُسرة الماذرائيَّة في مصر وحصل منهم على معلوماتٍ مُفيدة عن أوضاع مصر الاقتصاديَّة وعن المُمتلكات الماذرائيَّة. وما جرى آنذاك من إقدام مُحمَّد بن طُغج على مُصادرة أموال الناس في مصر واستيلائه على دار القاضي الحُسين بن حرب وعلى تركة أحمد بن صالح حاكم الإسكندريَّة، أن دبَّ الخِلاف بينه وبين تكين الذي أزعجهُ هذا التصرُّف ولم يرضَ عنه.
وحدث أن عيَّن مُؤنس الخادم، مُحمَّد بن جعفر القرطي على الحسبة ثُمَّ على الخِراج في مصر، وصرف الماذرائيين عنها وذلك في غُمرة الصراع على السُلطة وحتَّى لا يستأثر هؤلاء بِالمُقدرات الاقتصاديَّة، فتقرَّب إليه مُحمَّد بن طُغج ، وتحسَّنت علاقته به، غير أنَّ الماذرائيين لم يتركوا القرطي وشأنه، فاتهموه بإختلاس الأموال من خِراج البلاد، فعزله الخليفة أبو الفضل جعفر المُقتدر بِالله، واضطرَّ إلى الاختباء عند مُحمَّد بن طُغج حيثُ تمكَّن بِواسطته من التخلُّص من مُلاحقة الماذرائيين، والوُصول آمنًا إلى بغداد ، حفظ القرطي صنيع مُحمَّد بن طُغج، فعمل في بغداد على دعمه وتثبيت مركزه، وحصل لهُ على تقليدٍ من الخليفة بِولاية الرملة في سنة 316هـ المُوافقة لِسنة 928م، وقد اضطرَّ مُحمَّد بن طُغج أن يُغادر مصر بالحيلة خوفًا من غضب الوالي تكين عليه، ممَّا يدُل على الفوضى التي كانت تسود البلاد العبَّاسيَّة في ذلك الوقت ، تولَّى مُحمَّد بن طُغج ولاية الرملة حتَّى سنة 318هـ المُوافقة لِسنة 931م، عندما أعاد الخليفة تعينه واليًا على دمشق ، والرَّاجح أن صديقه القرطي كان وراء هذا التدبير، فحظي بِتأييده ومُساندة أهل دمشق حيثُ كان محبوبًا عندهم. ونظَّم مُحمَّد بن طُغج وضعهُ الداخلي في دمشق، فشكَّل جيشًا ضمَّ طائفةً كبيرةً من الجُند ، كما التفَّ إخوته حوله: عُبيد الله والحسن والحُسين وعليّ، بِالإضافة إلى بني طُغج ، فتقوَّى بهم ، وكوَّن عِصبةً من الغلمان ، إلتصقت به كان أكبرهم بدر الكبير ، وأصغرهم كافور ، الذي أضحى خادمه الخاص.
والواقع أنَّ مُحمَّد بن طُغج اقتدى بِأحمد بن طولون بعد أن أدرك أنَّ تقليد الخِلافة لهُ يبقى غير ذي قيمة إذا لم يُدعَّم بِالقُوَّة العسكريَّة في ظل الأوضاع السياسيَّة المُضطربة، التي كانت سائدة في عاصمة الخِلافة وفي الأطراف، لِهذا استمرَّ في تجهيز نفسه وإعداد قُوَّاته العسكريَّة بِجمع الأعوان والأنصار حتَّى كثُر رجاله ، وعجز عن تموينهم ، ودفع مُرتباتهم ، لِذلك راح يُصادر الأموال لِلإنفاق عليهم وبِخاصَّةٍ أموال الأثرياء واتَّبع مُختلف الوسائل في هذا السبيل. وبعد أن استكمل مُحمَّد بن طُغج استعداداته العسكريَّة، وأنس من نفسه القُوَّة، التفت إلى التمدُّد بإتجاه مصر، فراح يُراقب تحرُّكات تكين ويترصَّد أخباره، وهو مُستعد لانتهاز أوَّل فُرصة لِلوُثوب إليها.
بداية حكم محمد بن طغج للدولة الإخشيدية
[ مصر وبلاد الشام وفلسطين ]
لم يترُك مُحمَّد بن طُغج وسيلةً لِلحُصُول على ولاية مصر ، فنهج أُسلُوب أحمد بن طولون في الإعتماد على الأنصار وشراء الناس ، وأرسل كاتبه علي بن مُحمَّد بن كلا إلى الخليفة أبو منصور مُحمَّد القاهر بِالله يلتمس منه ولاية هذه الديار بعد وفاة تكين في سنة 321هـ المُوافقة لِسنة 933م ، لكنَّ الخليفة لم يُجبه، وقلَّد مُحمَّد بن تكين ولاية مصر خلفًا لِوالده ، ولكنَّهُ لم ييأس وتابع مُحاولاته في ظل تردّي الأوضاع الداخليَّة في هذه الولاية ، وتغيُّر الوُلاة بِسُرعةٍ لافتة ، ويبدو أنَّ الخليفة بدَّل رأيه بعد ذلك ، فعيَّنهُ واليًا على مصر ، غير أنَّهُ لم يتمكَّن من الذهاب إليها بِسبب إضطراب أوضاعها الداخليَّة، واضطراب الأوضاع في بغداد نفسها بعد خلع الخليفة القاهر بالله، وانتهاج خلفه أبو العبَّاس مُحمَّد الراضي بِالله ، سياسة أسلافه في الإيقاع بين السُلطات الحاكمة في مصر، فكتب إلى الوالي السَّابق أحمد بن كيغلغ يُقرُّه على ولاية مصر في حين أرسل إلى القائد مُحمَّد الماذرائي يُذكِّره بِأنَّ الأمر له يُقلِّد من يشاء ويصرف من يشاء ، ونتيجةً لِلصراع بين مُحمَّد بن تكين، الذي قدم إلى مصر من فلسطين في شهر ربيع الأوَّل 322هـ المُوافق فيه شُباط (فبراير) 934م ، مُدعيًا أنَّهُ واليها من قِبل الخليفة، وبين الوالي أحمد بن كيغلغ والماذرائيين ؛ إضطربت الأُمور أكثر فأكثر ، وإنقسمت طوائفُ الجُند ، ما دفع الخليفة الراضي بِالله إلى إرسال الوزير الفضل بن جعفر إلى مصر لإستطلاع أوضاعها وتدبير أُمورها، ومنحهُ صلاحيَّات مُطلقة في التصرُّف، بناءً على طلبه ، فقلَّد هذا مُحمَّد بن طُغج ولاية مصر في سنة 323هـ المُوافقة لِسنة 935م، وضُمَّت إليه الشَّام والحجاز ، ويبدو أنَّ لِذلك علاقةً بِما جرى من التقارب الأُسري. فقد زوَّج مُحمَّد بن طُغج إبنته من الفضل بن جعفر ، فإستغلَّ هذا الزواج لِلحُصول على ولاية مصر ، وقد وافق الخليفة الراضي بِالله بعد ذلك على هذا التعيين بعد أن أصبح أمرًا واقعًا وعزل أحمد بن كيغلغ.
دينار تم إصداره في عهد محمد بن طغج في فلسطين
والواقع أنَّ الخِلافة كانت مُترددة في حسم الموقف في الشَّام ومصر خشيةً من تكرار تجربة الطولونيين، لِذلك جاءت قراراتها مُتسرِّعة ، وأوامرها مُرتبكة تنُمُّ عن الضُعف الذي حلَّ بها ، وقد إستغلَّ مُحمَّد بن طُغج ذلك الإرتباك بِذكاء ، وإعتمد على الصلاحيَّات الواسعة المُعطاة لِلوزير العبَّاسي لِتنفيذ رغبته، مُدركًا أنها لن تتحقق وتستقر إلَّا بِجُهوده الشخصيَّة وقُوَّته العسكريَّة.
الإحتلال الإخشيدي لمصر